الأزمة السودانية: من التوافق الدولي إلى الصراع!

الأزمة السودانية:  من التوافق الدولي إلى الصراع!

  • بقلم: النذير السر

شكل خطاب رئيس الوزراء المستقيل لمجلس الأمن لاستقدام بعثة أممية لتكون داعمة للتحول الديمقراطي، هذا الخطاب الذي كان نتاجا لتحريض وتدبير كامل من السفير البريطاني السابق بالخرطوم (صديقي عرفان) والذي بدأ ووقتها وكأنه الحاكم العام للبلاد تعبيرا مبكرا للصراع الدولي حول إدارة سودان ما بعد انقلاب اللجنة الأمنية لحكومة البشير، خصوصا بعد التحفظ الأمريكي الصارخ على أول حكومة للجنة الأمنية والتي بدأت حمراء تغيظ الأمريكيين، الأمر الذي دفعهم إلى التعنت بوجه الحملة الدبلوماسية التي قادها رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك عبر جولاته الأوروبية.

ورأينا كيف أن واشنطن تمنعت عن تقديم دعوته لزيارتها، وحتى بعد أن جاءت مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وتعريجه ناحية واشنطن، لم تتح له مقابلة أي مسؤول أمريكي واكتفى بلقاءاته بالجالية السودانية لا غير.

كما بدأت ملامح الخلاف الأوروبي الأمريكي أكثر وضوحا بعد محاولة حمدوك الالتفاف على العقوبات الأمريكية بمساعدة أوروبية عبر صناعة ما أطلق عليه (أصدقاء السودان) والذي هدف عبره الاتحاد الأوروبي إلى تكوين آلية تمكن من دعم الخرطوم اقتصاديا لحين رفع العقوبات الأمريكية ولكن واشنطن تسللت لهذا التحالف لتضع الاشتراطات من داخله، وقد نجحت في ذلك عبر إقالة الحكومة وتغيير لونها شديد الاحمرار إلى جملة ألوان لا تسبب لنظرها السياسي (الحساسية) مشاركة حزب الأمة والحركات المسلحة.

غير أن رئيس الوزراء المستقل وتحالفه السياسي كان، ولا يزال مراهنا على الرافعة الأوروبية، وهذا عكس اختلالا لا يزال ملازما لتحالف الحرية والتغيير في عدم استيعابه لحساسية اتخاذ المواقف السياسية دون أدرك لتقاطعاتها الدولية، واعتقاده الطفولي ان الغرب كتلة واحدة، فمرة أخرى وبترتيب أوروبي قامت حكومة حمدوك بعملية غاية الخطورة من وراء الأجهزة الأمنية السودانية ومن غير تنسيق مع واشنطن، في إطار سعي مكوناتها اليسارية في إفراغ حملة تشفيها من النظام السابق إلى تسليم أحمد محمد كوشيب للمحكمة الجنائية الدولية.

هذا الأمر جعل واشنطن تنتفض في وجه الاتحاد الأوروبي، فقد كانت واشنطن وقتها تشهد انقساما سياسيا واجتماعيا لم تشهده طوال نصف القرن الماضي، بفعل حادثة الشرطي الذي قتل مواطنا أمريكيا من أصول أفريقية، وشهدت مظاهرات عارمة وتم مواجهتها بقمع شرطي مفرط، الأمر الذي قاد لانقسام سياسي حاد بين الجمهوريين والديمقراطيين لم يوقفه إلا تسليم كوشيب للمحكمة الجنائية الدولية، فتناسى الأمريكيون انقسامهم الداخلي غير المسبوق، وتوحدوا لتوجيه رسائلهم شديدة اللهجة للمحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي دفع بجملة محللين سياسي إلى الأمر متجاوز إلى التخوف من محاكمة المحكمة لعناصر الجيش الأمريكي أو مسؤولين أمريكيين فالمحكمة أضعف من تقف أمام واشنطن، ولكن برأي المحللين فإن أمريكا رأت في الخطوة محاولة أوروبية للضغط على حلفائها العسكريين.

هنالك جملة تغييرات على المشهد الدولي بفعل تغيير موازين القوى الدولية جعلت أمريكا تمضي باتجاه أكثر واقعية في إطار الحفاظ على مصالحها ومكانتها الدولية خصوصا في الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا إلى اتجاه أكثر برغماتية نتج عبر ضغوط صعود القوى الدولية المنافسة لها، حتم عليها تقديم فرضية الاستقرار على الديمقراطية في ظل انهيار مكونات العملية الديمقراطية (ضعف الأحزاب السياسية، والانقسامات الاجتماعية) وهذا يقودها لدعم من يمتلك القوة خصوصا في شرق أفريقيا كخيار حتمي اتخذه خصومها الدوليون، وأنتج بعض المكاسب الاقتصادية لشعوب العديد من دول العالم الثالث.

وفي ظل الانعطاف الأوروبي الكبير مع حكومة الخرطوم والدفع الإعلامي العالمي لم تملك واشنطن غير مماهاة هذا الاتجاه، ولكن بعد استيعاب الاتحاد الأوربي وبريطانيا تحديدا للمحاذير الأمريكية، فقد سحبت بريطانيا سفيرها (عرفان) من الخرطوم، والذي كان قد توقف عن التغريد بعد الغضبة الأمريكية الضارية، ولم يعد مغردا إلا مودعا للخرطوم.

وقد تلاحظ غياب التمثيل الأوربي التام عن حضور توقيع اتفاق سلام جوبا، الذي مثل بداية التحرك الأمريكي الإيجابي تجاه الخرطوم، وواضح ان واشنطن قررت وقتها عدم ترك السودان لأوروبا، فرفعت العقوبات وقدمت أكثر من ملياري دولار أمريكي للبنك الدولي كغرض تجسيري لمساعدة الخرطوم في إعادة تعاملها مع البنك الدولي، ورأينا كيف أنها تحفظت باكرا على فكرة استقدام البعثة الأممية للخرطوم، وتعاملت معها كحيلة أوروبية لتجاوز تأثيرها المباشر على الخرطوم، وانعكس ذلك عبر تحفظها على المرشح الأول (فرنسي الجنسية) والذي تربطه صداقة قديمة مع رئيس الوزراء المستقيل، فقد مثل تأخر التوافق على رئيس البعثة الأممية أكبر إشارات التضارب الدولي والغربي بشكل خاص تجاه السودان لكل من له حس سياسي.

ولكن الحرية والتغيير لديها عطب أساسي في هذا الاتجاه، وهذا ما أكده تعاملها الأخير مع مبادرة البعثة الأممية والذي تعامل معه الجانب العسكري كأمر واقع، وقد تجاوز رئيس الوزراء بتدبير أوروبي بديهات دبلوماسية تحكمها لوائح واتفاقات دولية فالاتحاد الأفريقي ومنظماته الإقليمية يحكمها القانون الدولي مع مجلس الأمن والأمم المتحدة حيث لا يمكن رفع أي قضية بشكل مباشر للأمم المتحدة أو مجلس الأمن إلا بعد المرور بقنوات وآليات الحل المؤسسي للاتحاد الأفريقي ومنظماته الإقليمية، فقد أنجز السودان أكبر عملية سياسية في تاريخه اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عبر هيئة الإيقاد للتنمية.

تعامل الحرية والتغيير مع المبادرة الأممية، ووصفها بمبادرة (الزيف الدولي) وتفضيلها عوضا عنها المبادرة السعودية الأمريكية، وبالرغم من إصدار الدولتين لبيانات صحفية لنفي ان تكون جهودهما بديلا المبادرة الأممية، يعكس سطحية قادة الحرية والتغيير، ويحول التوافق الدولي الذي تم التوصل إليه بمشقة كما أسلفنا، إلى صراع دولي حاد تجاه السودان، وقد رأينا أثر الصراعات الدولية على سوريا وليبيا، وذكرنا في مقال سابق (السودان إلى أين) أن هذه الخطوة ستشعل الصراع الدولي، فبعد تصريحات وتوصيفات قادة الحرية والتغيير حول المبادرة الأممية، لن تصدق دول مثل روسيا والصين ومصر والإمارات أن الحل بيد المبادرة، وستسعى كل دولة عبر آلياتها وحلفائها المحليين والإقليمين لتحقيق مصالحها، وهذا بدوره يخلق مسارات متضاربة يصعب معها التوصل لتوافق سياسي.

وقد بدأت مظاهر هذا التشظي الدولي والإقليمي في الإعلان عن نفسها، فالحديث الإثيوبي عن ضرورة قيام الإيقاد بدورها في حل الأزمة السودانية لا يمكن قراءته بعيدا عن القلق الذي يمكن الجزم بأنه تملك كل من بكين وموسكو والإمارات ومصر والاتحاد الأفريقي خصوصا بعد تسريب بعض المعلومات عن الاتفاق المسبق بين فولكر والحرية والتغيير للتغيب عن حضور الحوار المباشر، فالجميع يدرك تململ فولكر من قيام الاتحاد الأفريقي باستدرك الخطأ الدبلوماسي الذي قام به حمدوك، عبر تمسكه بحقه القانوني في النظر والحل للمشكل السوداني، وكذلك الإيقاد، الأمر الذي أنهى انفراد فولكر بالمشهد، بعد تكوين الآلية الثلاثية وهي تطبيق مباشر للقانون الدولي النظام للعلاقات بين المنظمات القارية والإقليمية والدولية، فقد تجاوز حمدوك الإطار الدبلوماسي المتدرج وفقا للقانون الدولي في حل النزاعات الأفريقية، فاي نزاع أفريقي يعرض أولا على المنظمة الإقليمية وفي حالة السودان، فإن (الإيقاد) هي المسؤول الأول، ثم يحول للاتحاد الإفريقي، لجنة حل النزاعات الأفريقية، وفي حال فشلها يحول لمجلس السلم والأمن الأفريقي، ولا يحول أي نزاع إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة إلا بعد فشل الأخير في المعالجة، فقوي الحرية والتغيير التي أحدثت الانقسام السياسي والاجتماعي الداخلي الخطير والغير مسبوق نتيجة لتمسكها بالإقصاء كآلية وحيدة لاستمراها في الحياة، تعمل الآن بفعل سطحيتها وجهلها وعدم إدراكها لأفعالها لإشعال الصراع الدولي على السودان.